الخميس، 27 سبتمبر 2018

ملخص الشخص

الشخص


يشير مفهوم الشخص إلى الذات الإنسانية بما هي ذات واعية ومفكرة من جهة، وذات حرة ومسؤولة من جهة أخرى. وإذا كان الكثير من الفلاسفة قد ركزوا على جانب الفكر والوعي باعتبارهما يمثلان جوهر الشخص البشري، فإن هناك أبعاد أخرى تميز هذا الكائن؛ بيولوجية وسيكولوجية واجتماعية وغيرها. فللشخص صفات جسدية متغيرة، كما أن له حياة نفسية متقلبة، ثم إنه حيوان سياسي وأخلاقي، محكوم بروابط وعلاقات مع الغير.
أمام كل هذه المحددات نجد أن مفهوم الشخص يثير الكثير من الإشكالات، من أهمها ما يلي: ما الذي يتغير في الشخص؟ وما الذي يبقى ثابتا لديه؟ أين تتمثل هوية الشخص؟ هل هي هوية واحدة أم متعددة؟ وما الذي يميز الشخص ويمنحه قيمة وتميز عن باقي الحيوانات والأشياء؟ وما الذي يؤسس البعد القيمي- الأخلاقي للشخص؟ وبأي معنى يمكن النظر إلى الشخص كذات حرة ومسؤولة؟ ألا يمكن
القول بأن حريته مشروطة بمحددات نفسية واجتماعية وغيرها؟
1-   الشخص والهوية:
 إذا كان الشخص يتعرض إلى مجموعة من التغيرات على مستويات متعددة؛ جسدية ونفسية وفكرية ...، فهل يظل الشخص مع ذلك هو هو؟ أي هل يظل الشخص هو نفسه حينما تطاله تلك التغيرات، أم أننا نكون بإزاء شخص آخر؟ بمعنى هل هناك جوهر يظل ثابتا لدى الشخص بالرغم من التغيرات التي تحدث له؟ وإذا كانت الهوية تطلق «على الشخص إذا ظل هذا الشخص ذاتا واحدة رغم التغيرات التي تطرأ عليه في مختلف أوقات وجوده» (معجم جميل صليبا)، فأين تكمن هوية الشخص؟ وما الذي يمنح للشخص ثباته ووحدته؟ وما الذي يبقى ثابتا لديه بالرغم من التغيرات التي تحدث له؟  
1-1: الموقف العقلاني/ ديكارت: الفكر كأساس لهوية الشخص.
لقد استخدم ديكارت الشك المنهجي من أجل الوصول إلى الحقيقة؛ وهكذا فقد شك في كل شيء لكنه مع ذلك لم يستطع أن يشك في أنه يشك، وما دام الشك نوعا من التفكير فقد انتهى أنه يفكر. من هنا فقد تساءل قائلا: أي شيء أنا؟ وأجاب: أنا شيء مفكر. وهذا ما يجعل هوية الشخص عند أبي الفلسفة الحديثة تتحدد على مستوى الفكر؛ فالشخص هو ذات مفكرة وواعية. ويتجلى هذا الوعي في القدرة على الشك والفهم والتصور والنفي والإثبات والتخيل والإحساس...الخ. وتعتبر هذه الأفعال خصائص مكونة لهوية الشخص بحيث لا يمكن تصوره بدونها، فهي إذن ثابتة لدى الكائن البشري وتميزه عن باقي الكائنات.
 وإذا كانت أفعال الأنا هاته مختلفة ومتنوعة، فإنها مع ذلك تصدر عن نفس الجوهر المفكر، والذي يبقى في هوية وتطابق مع نفسه في كل الظروف والأحوال، وبذلك فهو يمثل هوية الشخص وجوهره وما هو ثابت فيه.
وقد استبعد ديكارت الخصائص المرتبطة بالجسم باعتبارها خصائصا عرضية وليست من طبيعة نفسه، واعتبر أنه يمكن أن يوجد حتى ولو افترضنا أنه لا بدن له. فالأنا على وجه التدقيق ذهن أو روح أو فكر أو عقل.
وهكذا فالفكر هو أساس هوية الشخص ووجوده؛ فأنا أفكر إذن أنا موجود، أنا موجود مادمت أفكر وإذا انقطعت عن التفكير انقطعت عن الوجود.
1-2: الموقف التجريبي/ لوك وهيوم: تحديد هوية الشخص انطلاقا من الوعي والذاكرة.   
الشخص عند جون لوك كائن واع ومفكر، يتأمل ذاته ويدرك أنها مطابقة لنفسها في كل لحظة تمارس فيها التفكير والتعقل. من هنا فهوية الشخص عنده لا تخرج عن إطار الفكر كما هو الحال عند ديكارت، إلا أنه يختلف عن هذا الأخير في أنه لا يمكن تصور أفكار فطرية بمعزل عن الحواس؛ ذلك أن العقل صفحة بيضاء والحواس هي التي تمده بالمعارف والأفكار. هكذا يربط  لوك بين الفكر والإحساس، وهذا الربط هو الذي جعله يستنتج أن الإحساس هو ما يكون الهوية الشخصية للإنسان.  
 كما يربط من جهة أخرى بين الذاكرة وهوية الشخص؛ إذ كلما امتد الوعي في الذاكرة إلا واتسعت معه هوية الشخص وتقوت. وهذا يعني أن الوعي والذاكرة هما مكونان أساسيان لهوية الشخص.
وإذا كان لوك قد اعتبر بأن الوعي يرافق دوما فكرنا، مما يجعل الوعي مكونا أساسيا من مكونات الهوية الشخصية ويجعل  كل واحد منا يطلق على نفسه اسم الأنا ويظل مطابقا لذاته باستمرار، فإنه لم يحسم ما إذا كانت الأفعال الصادرة عن الوعي ترتبط بجوهر واحد أم بعدة جواهر.
 وسيأتي التجريبي دفيد هيوم ليختلف صراحة مع ديكارت حول هذه النقطة؛ فاعتبر خلافا لهذا الأخير بأنه لا وجود لجوهر واحد اسمه النفس هو الذي يكون هوية الشخص وتصدر عنه أفعال الوعي المختلفة، بل إن الوعي يتجزأ إلى مختلف العمليات التي تصدر عن إدراكاتنا الحسية، والتي تتعاقب في الزمان والمكان بكيفية مكثفة ومسترسلة لا تعرف التوقف بحيث تمنحنا انطباعا وهميا بأن لنا جوهرا ثابتا اسمه النفس أو الأنا، في حين أن الأمر لا يعدو أن يكون مجموعة متعددة ومتغيرة من الإحساسات الظاهرة أو الباطنة، والتي تكون هويتنا ووعينا، وبتوقف تلك الإدراكات الحسية في النوم أو الموت مثلا فإنه يتوقف معها الوعي نهائيا، ولا نستطيع في هذه الحالة الحديث عن النفس أو الأنا المفكر كجوهر ثابت ومكون لهوية الشخص كما زعم ديكارت.
 وهكذا يجعل دفيد هيوم، كما هو الشأن بالنسبة لمواطنه جون لوك، الإدراكات الحسية أساسا لكل الأفكار التي  يحملها وعينا وذاكرتنا والتي يمكن أن تشكل ما يمكن أن نسميه بهويتنا الشخصية.
1-3: هوية الشخص بين النزعة العقلانية والنزعة التجريبية:
وإذا كان ديكارت يعتقد، شأنه شأن معظم العقلانيين المثاليين كأفلاطون، بأنه يوجد جوهر ثابت لدى الشخص هو الأنا أو النفس خاصيته التفكير الذي يظل ثابتا لدى الشخص، وبالتالي يشكل أساس هويته. وإذا كانت تصدر عن الأنا المفكر أفعال مختلفة كالشك والتصور والتخيل والإثبات…، فإن هذا التنوع الحاصل فيها لا يمنع من أنها تصدر عن جوهر واحد هو النفس الواعية أو الأنا المفكر.
كما أن فيلسوفا كابن سينا مثلا يعتقد بوجود جوهر ثابت لدى الإنسان هو النفس، بينما يكون الجسد عرضة للتغيير، كما نجد أفلاطون وسقراط يعتقدان بجوهرانية الروح وأفضليتها على الجسد، وكيف أنها تبقى خالدة حتى بعد موت البدن وفنائه.
في مقابل هذا التصور المثالي، نجد التصور التجريبي الذي يعتبر لوك وهيوم من أهم ممثليه، والذي لا يعتقد بجوهرانية النفس؛ حيث يرى هيوم أن كل ما هنالك هو أنه تصدر عن الإنسان مجموعة من الإدراكات الحسية، سواء الظاهرة أو الباطنة، وهي تصدر عنه بشكل متتابع ومتتالي في الزمان والمكان بحيث تمنحنا تصورا وهميا بأن لنا جوهرا ثابتا وقائما بذاته هو النفس أو الأنا، في حين أن واقع الحال يؤكد أنه لا يوجد أي انطباع حسي يقابل فكرة النفس، وبالتالي فهي فكرة من تأليف الذهن ولا أساس تجريبي لها على أرض الواقع. ونحن نعلم أن العمدة في المذهب التجريبي؛ هو أنه إذا شاءت الفكرة أن تكون صحيحة لزم أن يكون لها مصدر أصلي في الحواس ونابعة من التجربة.
إن أشكال الوعي عموما ترتبط عند هيوم بالإدراكات الحسية؛ بحيث يتوقف الوعي بتوقف هذه الأخيرة، مثلمل هو الحال أثناء الموت مثلا. ولذلك لا نجد الفلاسفة التجريبين، لا سيما المتطرفين منهم، يؤمنون بخلود النفس وبقائها بعد فناء الجسد.
أما لوك فهو يؤسس هوية الشخص على الوعي الذي يظل مصاحبا لأفعال الإنسان دائما، بل ويمتد حتى في الذاكرة، وهو الأمر الذي يعطي للشخص انطباعا بأن له أنا، وبأنه هو الذي يصبغ على أفعاله طابع الوحدة والاستمرارية. إلا أن الميولات التجريبية للوك لا تسمح له بأن يعتقد بجوهر واحد و ثابت كأساس لهوية الشخص كما اعتقد ديكارت.
1-4: تصور شوبنهاور:  الإرادة كأساس لهوية الشخص.
خلافا للفلسفات التي تحدد هوية الشخص انطلاقا من الوعي والذاكرة، يرى شوبنهاور أن هوية الشخص تتحدد بالإرادة، إرادة الحياة التي تظل ثابتة فينا حتى عندما ننسى ونتغير كلية.
وهكذا وبالرغم من التحولات التي يحملها الزمن إلى الإنسان، فإنه يبقى فيه شيء لا يتغير، وهو الذي يمثل نواة وجوده الذي لا يتأثر بالزمن. وهذا الشيء لا يتمثل في الشعور المرتبط بالذاكرة، لأن أحداث الماضي يعتريها النسيان، والذاكرة معرضة للتلف بسبب الشيخوخة أو المرض، بل يتمثل في الإرادة التي هي أساس هوية الشخص ونواة وجوده بحيث تظل ثابتة وفي هوية مع نفسها، وهي التي تمثل ذاتنا الحقيقية والمحركة لوعينا وذاتنا العارفة.
2-   الشخص بوصفه قيمة:
بالرغم من تدهور حالة الإنسان أو دخوله في حالة الغيبوبة، وبالرغم من أنه قد يكون طفلا أو به عاهة عقلية أو جسدية، وبالرغم من دخوله في حالة جنون، فإننا أكيد لا نعامله كما نعامل الحيوانات، أي أننا لا نعامله كشيء أو كمجرد وسيلة. وهذا يدل على أن البشر كأشخاص يتمتعون بقيمة يستمدونها من طبيعتهم ككائنات بشرية، وهي قيمة لا نجدها عند الحيوانات أو أشياء الطبيعة. ولهذا يمكننا التساؤل: ما الذي يؤسس البعد القيمي للشخص؟ ومن أين يكتسب قيمته كشخص؟ وما الذي يجعله جديرا بالاحترام؟
2-1: تصور كانط : ما يمنح للشخص قيمة هو كونه ذات عاقلة وأخلاقية.                            
يذهب كانط إلى القول بأن الشخص هو الذات التي يمكن أن تنسب إليها مسؤولية أفعالها. من هنا فالشخص هو كائن واع، وهو ما جعله يكتسب قيمة مطلقة في حين لا تتمتع الموجودات غير العاقلة إلا بقيمة نسبية. كما يعتبر الشخص غاية في ذاته، بحيث لا يمكن التعامل معه كمجرد وسيلة. وهذا يعني أنه يمتلك قيمة وكرامة لا تقدر بثمن.
ولكي يحافظ الشخص على احترامه كذات حرة وأخلاقية، يجب عليه أن يتصرف وفقا للأمر الأخلاقي المطلق بحيث يعامل الإنسانية في سلوكه كغاية وليس كوسيلة. ومن هنا فحرية الشخص عند كانط مقترنة بالتزامه بالأمر الأخلاقي الذي هو قانون عملي كلي ومطلق، يشكل مبدأ موضوعيا للإرادة الإنسانية، ويعامل الطبيعة الإنسانية كغاية في ذاتها.
وينبغي الإشارة هنا إلى فكرتين أساسيتين قد لا يتم الانتباه إليهما عند كانط؛ الفكرة الأولى مفادها أن كانط يرى أننا إذا نظرنا إلى الإنسان ككائن بيولوجي له جسم وغرائز، فهو لا يتميز عن الحيوانات وأشياء الطبيعة الأخرى، وأن قيمته بذلك تكون رخيصة وقابلة للبيع والشراء مثلها مثل الحيوانات وباقي منتوجات الأرض. غير أن كانط لا يكتفي بذلك، وهذا ما نود الإشارة إليه، بل يرى أن قيمة الإنسان تظل بخسة ويمكن اعتباره كوسيلة وتقويمه بسعر حتى ولو نظرنا إليه كحيوان عاقل.
نعم فحتى ولو نظرنا إلى الإنسان كحيوان عاقل، فهو لا يمتلك بذلك إلا قيمة رخيصة قد تكون أقل من أشياء الطبيعة الأخرى بما فيها الحيوانات. فهل امتلاك الإنسان للعقل لا يكفي لكي يمنحه تميزا وقيمة عن باقي الأشياء والحيوانات؟ وما المقصود بالعقل هنا عند كانط ؟ وما هي مميزاته؟
للإجابة عن هذه التساؤلات، لابد من التمييز في فلسفة كانط بين ما يسمى بالعقل النظري وما يسمى بالعقل العملي. الأول يتكون من ثلاث ملكات فطرية هي التي تؤهل الكائن لإنتاج المعرفة النظرية؛ وهي على التوالي الحساسية والفهم والعقل. فالحساسية تحتوي على صورتي الزمان والمكان كإطارين قبليين ضروريين لأي إدراك حسي، أما الفهم فيحتوي على مقولات قبلية تقوم بوظيفة تحويل المعطيات الحسية لإنتاج معرفة كلية وضرورية، في حين يحتوي العقل على مبادئ هي الله والنفس والعالم مسؤولة على إعادة تحويل معطيات الفهم ومنحها أعلى درجات من المعقولية.
أما العقل العملي فالمقصود به هو العقل الأخلاقي الذي يشرع للسلوك البشري، وهو عقل ينطلق من مسلمات ضرورية لمنح الأفعال الأخلاقية معنى وغائية معقولة.
وما نود أن نوضحه من خلال هذا التمييز بين عقل نظري وآخر عملي، هو أن العقل الأول بكل ما يحتوي عليه من أطر ومقولات ومبادئ قبلية غير كاف لكي يمنح للشخص القيمة التي تجعله يسمو على الحيوانات. وهذا يعني أن قيمة الشخص عند كانط تتحدد في العقل العملي الأخلاقي وليس في العقل النظري. لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: لماذا لا يكفي العقل النظري لمنح الإنسان قيمة الشخص التي تجعله يسمو على الحيوانات وأشياء الطبيعة؟ ألا يكفي أن يستخدم الإنسان عقله النظري وينتج معارف وأفكارا لكي تصبح له قيمة الشخص؟ وما هو نوع هذه المعرفة التي ينتجها هذا العقل النظري ومع ذلك لا تجعل له قيمة تسمو على قيمة الحيوانات مثلا؟؟
الواقع أن العقل النظري هو عقل معماري مزود بأطر ومقولات قبلية، هي عبارة عن مواهب طبيعية توجد لدى الإنسان ولا توجد لدى الكائنات الأخرى، وهي مواهب قد يستخدمها الإنسان في التخطيط لأفعاله وتدبير شؤون عيشه ورسم غايات لحياته، كما قد يستخدمها للتصرف بذكاء يفوق الحيوانات، وأيضا يستخدمها لإنتاج أفكار ومعارف...غير أن هذا التخطيط والتدبير والذكاء قد تنبثق عنه نتائج وأفكار لا تتطابق مع الإرادة الخيرة الممثلة للقانون الأخلاقي المطلق. وهكذا قد يتصرف الإنسان بذكاء عقلي، غير أنه قد يكون ذكاءا مسخرا لتحقيق أهداف دنيئة ولا أخلاقية، كما قد يكون ذكاؤه هذا قابلا للتقويم بسعر؛ كأن تمنح للفرد جوائز أو أرباح مادية كمقابل لاستخدام ذكائه في إنجاز بعض الأغراض أكثر مما يفعله ذكاء الآخرين، أو العبد الذكي الذي يزيد سعره عن العبد البليد أو قليل الذكاء.
كما قد يخطط الإنسان بذكائه فيبتكر أنماطا في العيش (ملابس، مساكن، طرق،أدوات ...) تفوق ما هو موجود لدى الحيوانات، لكن ما لم تنطبع هذه الأنماط بخصائص الإرادة الأخلاقية الخيرة للإنسان فهي لا تمنحه القيمة الأخلاقية كشخص، تلك القيمة التي لا نجدها لدى الحيوانات.
إن الاختلاف بين الإنسان والحيوانات من حيث الذكاء وقوة العقل النظري، هو اختلاف طبيعي من جهة؛ أي أن الإنسان لا يسمو بموجبه عن مملكة الطبيعة ما دام أن العقل والذكاء هنا هما موهبتان فطريتان، كما أنه اختلاف في الدرجة فقط؛ مادام أن الحيوان أيضا له ذكاء ويدبر حياته على نحو من الأنحاء.
إذن فما يمنح للإنسان قيمة الشخص في نظر كانط، هو عقله الأخلاقي العملي وليس ذكاؤه وعقله النظري. فالشخص هو بالتعريف ذات لعقل أخلاقي عملي، وهو تعريف يصبح بموجبه الإنسان متميزا من حيث القيمة عن الحيوانات وأشياء الطبيعة، وتصبح له كرامة لا تقدر بثمن. فالحيوانات مهما بلغ ذكاؤها من العلو لا يمكنها أن تكون ذواتا أخلاقية، فهي تعوزها الخاصية الأخلاقية التي بموجبها يمنح كانط للشخص قيمة.
لكن لابد من التساؤل هنا: هل هذه الخاصية الأخلاقية فطرية لدى الإنسان أم مكتسبة؟ وإذا كانت فطرية، فلماذا يكون الإنسان من منظور الزاوية الطبيعية مفتقدا لقيمة الشخص ويصبح مكتسبا لهذه القيمة حينما ينظر إليه كذات أخلاقية؟ وإذا كانت مكتسبة، فهل يعني ذلك أن الناس الذين يقومون بأفعال غير مطابقة لمبادئ العقل الأخلاق هم أناس مفتقدون لقيمة الشخص أم أنهم يظلون محتفظين بقيمتهم كأشخاص، ويظلون جديرين بالاحترام حتى ولو ارتكبوا جرائم وأفعالا دنيئة؟
إن هذا سيقودنا إلى التساؤل عن ماهية هذه الخاصية الأخلاقية ذاتها؛ فهل هي كفاءة عقلية أخلاقية فطرية، أي أنها استعداد فطري، أم أنها سلوك عملي يتجسد على أرض الواقع؟؟ فإذا كانت الخاصية الأخلاقية استعدادا فطريا، ألا يعني ذلك أنها ستكون موجودة لدى الجميع؟ وبالتالي سيكون كل الناس حائزون على قيمة الشخص حتى ولو نظرنا إليهم من زاوية الطبيعة والفطرة؟؟  وإذا كانت الخاصية الأخلاقية سلوكا مكتسبا، ألا يعني ذلك أن المجرمين والأشرار هم أفراد فاقدون للقيمة الأخلاقية للشخص؟ ألا يتعارض هذا مع قول كانط بأن النذل أو الساقط يمتلك قيمة وكرامة حتى ولو كان سلوكه منافيا للأخلاق؟ هل يعني ذلك أن قيمة الشخص وكرامته مرتبطة فقط بكونه يمتلك كفاءة أخلاقية حتى ولو كان فعله منافيا لأوامر عقله الأخلاقي العملي؟ ثم ما المقصود بهذه الكفاءة الأخلاقية؟؟ هل هي قدرة فطرية لدى الكائن البشري للتصرف بطريقة أخلاقية أم أنها معرفة مكتسبة تعني أن الشخص يكون على علم بالمبادئ الأخلاقية وله القدرة على التصرف وفقا لها، لكنه مع ذلك لا يتصرف بموجبها، وبالرغم من ذلك يظل محتفظا بقيمة الشخص؟ ثم إذا افترضنا أنها قدرة فطرية، ألا يكون بذلك كل الناس حائزون على قيمة الشخص؟؟
وفي الأخير نتساءل: ماذا عن المواليد بدون دماغ؟ والفاقدين للقدرات العقلية بسبب المرض أو غيره؟ والذين دخلوا حالة الغيبوبة؟ والأطفال الرضع أو حتى سن معينة؟ والأجنة أو البويضة المخصبة؟ هل يمكن اعتبار هؤلاء حائزين على الكفاءة الأخلاقية؟ هل هم أشخاص بموجب التصور الكانطي؟ هل أقصاهم كانط من دائرة تصوره؟ إذا كان الجواب بالإيجاب، فما هي مبررات هذا الإقصاء؟؟؟
فإذا كان كانط يجعل الخاصية الأخلاقية هي المحدد الرئيسي لقيمة الشخص، وهي ما يجلب له الاحترام من طرف الغير ومعاملتهم له كغاية، فإن هناك كائنات بشرية قد تعوزها هذه الخاصية، وبالتالي ستفتقد من هذا المنظور الكانطي إلى صفة الشخص ويصبح من الجائز معاملتها كمجرد وسائل ومنحها قيمة لا تختلف عن قيمة الحيوانات أو الأشياء المادية!!
 هذه المسألة هي التي جعلت تصور كانط لقيمة الشخص يعرف بعض الصعوبات والمفارقات التي انتبه إليها أحد الفلاسفة الأمريكيين المعاصرين، هو طوم ريغان Tom Regan) ).
   2-2: تصور طوم ريغان: ما يمنح للشخص قيمة هو كونه ذات حية تستشعر حياتها. 
يرى طوم ريغان أن كانط يحدد قيمة الشخص في كونه ذاتا عاقلة وأخلاقية، وهذا ما يؤدي إلى نفي قيمة الشخص عن كثير من البشر مثل البويضة المخصبة حديثا، والمرضى الذين دخلوا حالة الغيبوبة الدائمة، والأطفال إلى سن معينة، وكل الكائنات التي تفتقد القدرات العقلية التي تمكنها من أن تكون كائنات أخلاقية.
من هنا يجوز تبعا للمنظور الكانطي معاملة هذه الكائنات كمجرد وسائل، ونفي الاحترام والكرامة وكل مقومات الشخص عنها. وهذا ما يؤدي إلى مفارقة أساسية تتمثل في كون كانط، وهو المعروف بمثاليته الأخلاقية، يجسد –عن غير قصد- موقفا لا أخلاقيا تجاه هذه الأنواع من الكائنات التي ذكرناها. ولهذا وجب حسب طوم ريغان استبدال المعيار الأخلاقي الكانطي المحدد لقيمة الشخص بمعيار آخر أشمل وأوسع؛ يتمثل في أن ما يمنح للكائن البشري قيمة مطلقة هو كونه «ذات تستشعر حياتها». فالإنسان يختلف عن الحيوانات والأشياء الطبيعية في كونه يضيف خاصية الوعي إلى الحياة؛ فهو يعي ما يعتمل في حياته من مشاعر وأفكار ورغبات، كما يستشعر حياته الماضية ويتطلع إلى الاستمتاع بالنعيم وتحقيق ما هو أفضل بالنسبة إليه. وهذه العناصر هي ما يمنحه قيمة أصيلة ويفرض علينا احترامه والاعتراف له بحقوقه المشروعة.
فالقيمة الأصلية للشخص إذن لا تتوقف على نظرة الغير إليه أو حكمه عليه انطلاقا من معايير أخلاقية أو غيرها، بل هي تتحدد حسب طوم ريغان انطلاقا من كونه « ذاتا تستشعر حياتها» ويحيا حياة يمكن أن تتحول للأفضل أو للأسوأ بالنسبة إليه. وهذا المعيار الأخير يجعل كل الكائنات البشرية متساوية وتفرض علينا الاعتراف لها بحقوقها ومعاملتها باحترام.  
3-   الشخص بين الضرورة والحرية:
إذا تأملنا السلوك اليومي للأشخاص فإننا نجد أنه سلوك يتأرجح بين الحرية والضرورة؛ فحينما يتدخل العقل والوعي والإرادة نستطيع أن نقول عن سلوك الإنسان أنه حر، ولكن هناك سلوكات وأفعال تكون نابعة من دوافع لاواعية أو غريزية كما هو الحال في حالة الغضب أو الخوف مثلا، مما يمكن معه القول في هذه الحالة بأن الإنسان لا يكون حرا بل خاضعا لمجموعة من الإكراهات. وهذا يجعلنا نتساءل:  ما علاقة الشخص بوصفه ذاتا حرة، بما يحمله من صفات وما يصدر عنه من أفعال؟ هل هي أفعال صادرة عن إرادة حرة أم محكومة بإشراطات؟ وما هي حدود حرية الشخص؟ وما هي الحواجز أو الإشراطات التي تحد من هذه الحرية؟  
3-1: القول بخضوع الشخص لمجموعة من الإكراهات والمحددات الحتمية.
  3-1-1: تصور اسبينوزا: أفعال الإنسان محكومة بضرورات طبيعية.
يرى اسبينوزا أن الناس يعتقدون أنهم أحرار في أفعالهم وأنهم يتصرفون وفق إرادتهم واختيارهم، لا سيما أنهم يكونون على وعي بما يقومون به، إلا أن الحقيقة بخلاف ذلك؛ فالناس يجهلون الأسباب الحقيقية لأفعالهم ورغباتهم والتي تحددها بشكل طبيعي وحتمي.
 إن التجربة تبين حسب اسبينوزا أن الناس لا يستطيعون التحكم في شهواتهم بما فيه الكفاية؛ ذلك أنهم غالبا ما يدركون الأفضل ومع ذلك يفعلون الأسوء وينتابهم الندم من جراء ذلك. وفي هذا السياق يقدم اسبينوزا أمثلة تتعلق برغبة الرضيع في حليب الأم، وبحالة الغضب التي تنتاب الشاب وهو يريد الانتقام، وبرغبة الجبان في الفرار، لكي يبين لنا من خلالها أن هؤلاء وغيرهم من الناس يظنون أنهم أحرار أثناء قيامهم بتلك الأفعال وغيرها، إلا أن واقع الأمر عكس ذلك فهناك أسباب خفية تقف وراء أفعالهم تلك وتوجهها.
 هكذا فمن الوهم الاعتقاد، حسب اسبينوزا، بأن الإنسان حر نظرا لجهله بالأسباب التي تحرك أفعاله وأقواله، وهي أسباب لا تخرج عن إطار الحتمية الطبيعية التي تخضع لها جميع الأشياء.   
 3-1-2: تصور العلوم الإنسانية: الشخص خاضع لحتميات مختلفة.
لقد اعتبر علم النفس الفرويدي بأن نفسية الإنسان تتحدد بشكل حاسم في مرحلة الطفولة، كما أن سلوكاته تقف وراءها نزعات لاشعورية توجه حياته دون أن يشعر. هكذا يحل اللاوعي محل الوعي، ويبدو الشخص خاضعا لنزعاته التدميرية العدوانية التي يختزنها "الهو".
ومن جهة أخرى بينت الدراسات الاجتماعية والأنثروبلوجية أن الكثير من أحاسيس الإنسان وأفكاره وسلوكاته مفروضة عليه من خلال التنشئة الاجتماعية. فالشخص لا يعدو أن يكون نتاجا لتفاعل بنيات وقواعد مؤسسية مختلفة تمارس عليه الإكراه من مختلف الزوايا؛ سواء تعلق الأمر بالبنيات النفسية أو اللغوية أو المادية والاقتصادية. من هنا فقد انتهت العلوم الإنسانية إلى التأكيد على أن وعي الشخص بذاته يشوبه الوهم والغرور، وتحدثت عن موته واختفائه وسط العديد من المحددات التي تشرطه وتحاصره.
 وإذا كان الفيلسوف اسبينوزا قد تحدث عن خضوع الشخص لحتمية طبيعية، وأكدت العلوم الإنسانية على خضوعه لمحددات نفسية واجتماعية وغيرها، فهل يعني ذلك أن هناك غياب تام لحرية الشخص في بناء نفسه وتقرير مصيره؟
  3-2: القول بحرية الشخص في بناء نفسه.  
   تصور سارتر: الشخص مشروع حرية تتحقق بشكل دائم.   
يرى سارتر أن الإنسان كشخص هو مشروع مستقبلي، يعمل على تجاوز ذاته ووضعيته وواقعه باستمرار من خلال اختياره لأفعاله بكل إرادة وحرية ومسؤولية، ومن خلال انفتاحه على الآخرين. ولتأكيد ذلك ينطلق سارتر من فكرة أساسية في فلسفته وهي كون "الوجود سابق على الماهية"، أي أن الإنسان يوجد أولا ثم يصنع ماهيته فيما بعد. إنه الكائن الحر بامتياز، فهو الذي يمنح لأوضاعه معنى خاصا انطلاقا من ذاته؛ فليس هناك سوى الذات كمصدر مطلق لإعطاء معنى للعالم.
إن الشخص هو دائما كائن في المستقبل، تتحدد وضعيته الحالية تبعا لما ينوي فعله في المستقبل. فكل منعطف في الحياة هو اختيار يستلزم اختيارات أخرى، وكل هذه الاختيارات نابعة من الإنسان باعتباره ذاتا ووعيا وحرية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.