الثلاثاء، 24 أبريل 2018

نحو حداثة إسلامية

   


نحو حداثة إسلامية
أفكار من وحي فلسفة طه عبد الرحمن



بقلم: محمد الشبة

     
   في إطار مبدإ "الحق في الاختلاف"، ينبغي الإقرار بأن لكل أمة الحق في إبداع حداثتها الخاصة بها مع الانفتاح على الحداثات الأخرى، في إطار حوار فيه أخذ وعطاء. ومن هنا يتعين على الفعل الحداثي العربي الإسلامي أن يكون وليد ثقافتنا الخاصة، مع الاستفادة من الغير، لأن الحداثة لا تستورد بشكل جاهز من الخارج، بل ينبغي استنباتها داخل البيئة الثقافية للمجتمعات العربية الإسلامية. فجوهر الحداثة هو الإبداع. أما التقليد فليس من الحداثة في شيء، ﻷنه يكرس التبعية والاستلاب الفكري.
   ولهذا، يمكن نقد الآليات والمنطلقات التي ارتكزت عليها الحداثة الغربية، وتقويم اعوجاجها واستبدالها بأخرى غيرها. فليس من الحداثة أن نقلد الحداثة، بل الحداثة هي الإبداع انطلاقا من مقومات ذاتنا نحن، ومن خلال الدخول في حوار نقدي مع ما يوجد لدى الآخر. فلا توجد حداثة واحدة بل حداثات مختلفة، وأي اعتقاد بأن ما أبدعه الغرب هو الشكل الوحيد للفكر وللتفلسف وللحداثة هو اعتقاد قاصر، ويزج بصاحبه في أغلال التبعية وغياهب التيهان والاستلاب الفكري.
وحينما يركن بعض المتفلسفة العرب إلى التقليد ويستمرؤونه، ويرون بأن صنع حداثة عربية إسلامية هو أمر غير ممكن، فإنهم أكيد يحكمون على أنفسهم بالجمود والتبعية والاضمحلال، وهذا لا يجوز؛ لأنه لا يوجد مستحيل في مجال الفكر والعلم والفلسفة. صحيح أن وضع الفكر العربي اليوم متأزم، ولكن الاكتفاء بالاستيراد والوقوف عند حدود التبعية سيؤزمه بشكل أكثر. ولهذا، فالحل يكمن في التعامل النقدي مع حداثة الغرب، عن طريق الاستفادة من إيجابياتها ونقد مآزقها وآفاتها، وذلك في أفق بناء فكر عربي إسلامي معاصر يرتكز على مقومات مجالنا التداولي من جهة، وينفتح على المكتسبات العلمية المعاصرة من جهة أخرى.
وإذا تأملنا في تاريخ الثقافة العربية الإسلامية، فإننا سنجد أن لها مقومات عقدية ولغوية ومعرفية خاصة بها، كما أن لها بنية ونسق يخصها، مما جعل مفكرا مغربيا متميزا كالجابري يؤلف كتابا حول "نقد العقل العربي" من أربعة أجزاء يحدد فيه مكونات العقل العربي، ويكشف عن بنيته المعرفية، ويبحث عن الأسس والمحددات التي يرتكز عليها هذا العقل العربي من الناحية الأخلاقية والسياسية. فللعرب المسلمين دين وقيم ومعارف تراثية علينا الاشتغال عليها عن طريق نقدها، من أجل بناء ذاتنا من الداخل. وعلوم الغرب وفلسفاته سوف تحضر أثناء هذا النقد، لكن سنستخدمها لصالحنا ومن أجل خدمة مشروعنا الخاص، عن طريق نقدها وتكييفها مع القضايا التي تشغل عقلنا العربي الإسلامي.
ومن هنا، ينبغي الوعي بأن ما أنتجه الغرب من فكر وفلسفة هو وليد بيئة خاصة ومسار تاريخي يخص الذات الأوروبية، ولهذا ينبغي التعامل مع مفاهيم الحداثة الغربية ومنطلقاتها ونتائجها بحس نقدي. فلا توجد حداثة مطلقة، بل كل حداثة هي حداثة سياقية. ومن حق جميع الشعوب إبداع حداثاتها الخاصة، في إطار من الانفتاح والتفاعل والحوار المتبادل. فالقول بوجود طريق واحد للتقدم والنهضة هو تكريس للوصاية التي هي مناقضة للحداثة نفسها.
وإذا كان منطق الانفتاح على الغير يستدعي بالضرورة الاستفادة مما يوجد عنده، فإن على هذه الاستفادة أن تكون واعية بحيث نعمل على تكييف ما نأخذه منه مع أهدافنا وغاياتنا الخاصة. كما أنه لا ينبغي الاكتفاء بالاستيراد والتكييف والتبيئة، بل علينا الطموح لبلوغ مرتبة الإبداع رغم صعوبته، ذلك أن الإبداع ممكن وليس مستحيلا. ووظيفة الطاقات الفكرية العربية اليوم هي التنظير للكيفيات الممكنة لبلوغ طموح الإبداع، لكي نكون منتجين ومساهمين في الحضارة الإنسانية كما فعل أجدادنا، ولا نبقى فقط مستوردين ومستهلكين.
وإذا كان الإبداع في مجال الفلسفة والفكر عموما يقتضي إبداع المفاهيم المؤسسة لهذا الفكر، فإنه يمكن للمفكرين والفلاسفة العرب منح دلالات جديدة للمفاهيم الفلسفة الغربية من جهة، كما يمكنهم إبداع مفاهيم مضاهية لمفاهيم الغرب ومختلفة عنها من جهة أخرى. ولعل هذا الطموح المتعلق بالإبداع المفاهيمي يتطلب العمل على واجهتين؛ الأولى هي الاشتغال على النصوص الفلسفية الغربية من أجل الكشف عن طريقة إبداع المفاهيم داخلها، والثانية هي استثمار تلك الطرق في إبداع مفاهيمنا الخاصة المتناسبة مع مقتضيات ثقافتنا العربية الإسلامية.
وإذا أخذنا مفهوم الديمقراطية، مثلا، كما تبلورت في سياقها الحداثي الغربي، فإنه يتعين استلهام روح تلك الديمقراطية في إبداع ديمقراطية تتناسب مع خصوصية المجتمعات العربية الإسلامية، وليس استنساخها وتطبيقها بشكل حرفي وببغاوي. ففي إطار التطبيق الإسلامي لروح الديمقراطية، يمكن استلهام مفهوم الشورى كمفهوم قرآني لكي يصبح آلية، من بين آليات أخرى، لتطبيق الديمقراطية في المجتمعات الإسلامية. فالشورى من التشاور؛ بمعنى التحاور والاتفاق والأخذ بالآراء المختلفة، ولهذا يمكن العمل بها كآلية من آليات الديمقراطية. فالقرآن يمدنا بمفاهيم كثيرة يمكن استثمارها من أجل بناء فكر وحداثة وديمقراطية ذات طابع إسلامي. لكن هذا الطابع الإسلامي للديمقراطية لا يلغي بالضرورة الديمقراطية المطبقة في الغرب، وإنما يصحح بعض جوانبها ويضيف إليها لمسة خاصة مستوحاة من الذكر الحكيم (القرآن)، ومستوحاة أيضا من الثقافة والظروف الخاصة بالمجتمعات العربية الإسلامية. فالعقل الفلسفي العربي الإسلامي هو الذي سيبني مفهوم الديمقراطية استنادا إلى مرجعيته التراثية الخاصة، واستنادا إلى طبيعة ظروف المجتمع العربي الإسلامي في الراهن، مع إمكانية الاستفادة من الغرب بشرط التعامل مع مفاهيمه ومقولاته بحس نقدي وتاريخي.
فالديمقراطية، إذن، لا تستورد ولا تطبق بنفس الطريقة، بل على مجتمعاتنا العربية الإسلامية، وباقي الشعوب أيضا، أن تبني ديمقراطيتها المتناسبة مع ثقافتها وعقيدتها وظروفها التاريخية والاجتماعية الخاصة. ولهذا، علينا التمييز بين روح الديمقراطية من جهة، وبين طريقة تطبيقها من جهة أخرى. فديمقراطية فرنسا أو ديمقراطية أمريكا مثلا ليستا الديمقراطيتين الوحيدتين الممكنتين، بل يمكن لكل دولة أن تجتهد في تطبيق روح الديمقراطية وفقا لخصوصياتها التي قد لا تشبه بالضرورة خصوصيات غيرها من الدول والأمم والشعوب.
وهكذا، لا توجد حداثة كونية تتعالى عن الشروط التاريخية التي أنتجتها، بل كل حداثة تحمل طابعا قوميا يخص المجتمع الذي نبتت فيه. فمثلما أن للأوروبيين آدابهم وفنونهم ومعتقداتهم، فإن لهم أيضا فلسفاتهم. ويمكن لباقي الشعوب أن تستفيد من حداثة الغرب طبعا، لكن الاستفادة الواعية ليست هي الانغماس الأعمى، لأن هذا الانغماس يكرس التبعية ويلغي المقومات الخاصة بالذات. فالمفاهيم التي بنى عليها الغرب حداثته مثل العقلانية والفردانية والحرية والإنسية والعقل والعلمانية...الخ، ليست لها مدلولا واحدا بالضرورة، إذ يمكن لكل ثقافة أخرى، كالثقافة الإسلامية مثلا، أن تمنح لها دلالات مغايرة. ومن شأن هذه الدلالات الجديدة أن تجعلنا نقدم تصورا جديدا للحداثة، قد يلتقي مع الحداثة الغربية في بعض الجوانب، ولكن أكيد سيختلف عنها في جوانب كثيرة. وهذا هو الإبداع الذي هو جوهر الحداثة، أما الانبهار بحداثة الغرب وتقليدها فهو العمى الفكري بذاته.
فنحن نجد أن العقل الحداثي الأنواري نفسه يتم نقده ومراجعته وتقويمه في عقر داره، فكيف بنا نحن القاطنين خارج الدار نأخذ به بحذافيره؟؟ ولهذا، لا بد من الاعتراف بحق النقد وحق الاختلاف الذي يكفله الفكر الفلسفي لنا ولغيرنا. ذلك أنه لا يوجد فكر بشري مطلق، بل ما أنتجه فلاسفة الغرب مثل ديكارت وروسو وكانط وهيجل ونيتشه وفوكو ودريدا.... والقائمة طويلة، هو فكر نسبي قابل للنقد والتجاوز، مع الاحتفاظ بعناصره الإيجابية. وهذا النقد المشروع سيكون من قبل ذات مغايرة للذات الأوروبية، في لغتها وقيمها وعقيدتها ومعارفها، وهو ما سيترتب عنه بالضرورة الانطلاق من ذلك النقد المشروع لبناء حداثة ذات مقومات خاصة بنا.
وإذا كانت لا توجد حداثة واحدة بل حداثات مختلفة ممكنة، فإنه يمكن القول بوجود روح واحدة للحداثة، وهاته الروح هي حق لكل الشعوب لكي ينطلقوا منها ويبنون حداثتهم الخاصة، ولكن ليس في إطار الانغلاق على الذات بل في إطار الأخذ والعطاء، والانفتاح والحوار مع الآخر.
  وهذا الأمر يقتضي نقد الأساس النظري والجهاز المفاهيمي الذي ترتكز عليه الحداثة الغربية والعمل على تجاوزه، ﻷنه محكوم بالتربة الثقافية التي نشأ فيها. ولهذا فحداثة الغرب هي مجرد شكل حداثي من بين أشكال أخرى ممكنة. فمن الخطأ أن نتحدث عن حداثة في "السماء" منزوعة عن جذورها الأرضية والثقافية !! فمنظور الغرب للكون والحياة والاجتماع والأخلاق والسياسة والعقل والحرية...الخ، ليس منظورا مطلقا ووحيدا. ولذلك  فالفلسفة نفسها تعطينا الحق في نقده وتجاوزه وإبراز آفاته وثغراته. فجوهر الحداثة هو النقد والإبداع، ولذلك يتعين نقد الحداثة الغربية نفسها، نحو إبداع حداثة أو حداثات أخرى ممكنة. 
 فالحداثة الغربية هي مجرد تطبيق ل"روح الحداثة"، كما يعبر عنها طه عبد الرحمن، لأن هذه الروح لا تستنفذ بشكل نهائي، بل تظل مفتوحة على تطبيقات وممكنات أخرى كثيرة.ة
ولهذا، يتعين التمييز هنا بين الروح وتطبيقاتها؛ فالحداثة الغربية هي تطبيق لروح الحداثة وليس هي نفسها هذه الروح. ولهذا السبب يمكن أن توجد تطبيقات أخرى لروح الحداثة، مثل التطبيق الإسلامي لها، مما يسمح بالحديث عن إمكانية تأسيس حداثة إسلامية.
وانطلاقا من هذا التصور، لا ينبغي التعامل مع الحداثة الغربية كقدر محتوم لا يمكن تفاديه، وينبغي القبول به كحتمية تاريخية! بل إن الحداثة الغربية هي صنيعة الإرادة الإنسانية، إنها صنيعة أهلها في تفاعلهم مع ظروفهم الاجتماعية الخاصة. ولهذا فالحداثة سياقية وليست مطلقة. وبهذا المعنى يمكن للإنسان الذي ينتمي إلى ثقافة مغايرة وظروف اجتماعية وتاريخية متباينة أن يصنع حداثة بمواصفات غير متطابقة تماما مع الحداثة الغربية، وإن كان من الممكن أن تتقاطع معها في بعض الجوانب والأوجه.
صحيح أن النموذج الغربي مهيمن الآن. ولكن علينا أن لا نبقى عبيدا له وواقعين تحت سيطرته، بل علينا أن ننتقده ونتجاوز ثغراته وآفاته، مع العلم أنه يتوفر على عناصر مضيئة يتعين الاحتفاظ بها. فتطوير الذات يقتضي نوعا من الجدل القائم على الأخذ والعطاء، الاحتفاظ والتجاوز.
ويمكن القول بأن الحق لا يتجسد دفعة واحدة في التاريخ، بل كل حضارة تعبر عنه بطريقتها الخاصة وفقا لخصوصيتها، مع الانفتاح على باقي الحضارات. ولهذا يمكن العثور في تراثنا العربي الإسلامي على عناصر حداثية استفاد منها الغرب، وتفاعل معها، وأضاف إليها، وصنع انطلاقا من ذلك حداثته الخاصة. وبالمثل يمكننا اليوم أن نبني حداثتنا الخاصة بالرجوع إلى التراث العربي الإسلامي من ناحية أولى، وبالاستفادة من الفكر الغربي من ناحية ثانية، وبقراءة واعية وموضوعية للوضع الراهن لمجتمعاتنا العربية الإسلامية من ناحية ثالثة. ففي التراث الإسلامي عناصر حداثية يمكن إحياؤها والاستفادة منها في الحاضر. وليس بالضرورة أن تكون هذه العناصر متطابقة مع الحداثة الغربية المعاصرة؛ لأن هناك عناصر في الماضي أكثر حداثة من بعض العناصر الموجودة في الحاضر. فالحداثة، كما يرى طه عبد الرحمن، هي حداثة قيم وليست حداثة زمن، والنموذج الغربي
         .ليس هو النموذج الأوحد للحداثة المثلى. فأساس الحداثة هو الإبداع والنقد والخروج من الوصاية 
  
    

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.