السعادة مع الغير
بقلم: محمد الشبة
يقال إن الإنسان كائن اجتماعي بطبعه؛ ومعنى ذلك أنه يميل بحكم طبيعته الفطرية إلى العيش مع الآخرين من أفراد جنسه لكي يحقق من خلال ذلك مجموعة من الحاجات والرغبات، سواء الجسدية أو النفسية أو العقلية. ولعل أقصى عقوبة يمكن أن نحكم بها على مجرم ما هي أن نضعه، ولمدة طويلة، في زنزانة انفرادية لوحده؛ ذلك أننا في هذه الحالة نعاقبه عقابا يذوق مرارته في كل لحظة وحين، عقابا نفسيا وعقليا وجسديا مسترسلا ودائما هو أعسر من عقاب الإعدام نفسه الذي لا يحس به صاحبه إلا برهة قصيرة من الزمن لا تتعدى بضع ثواني.
ولعل ذلك يبين مدى ضرورة الغير بالنسبة للأنا البشري، إذ يستحيل على هذا الأخير أن يحس بطعم الحياة ونعيمها دون الدخول في علاقات متنوعة مع الآخرين من الناس. وهذا ما جعل الفيلسوف اليوناني القديم أرسطو يرى أن لا أحد من الناس يريد التمتع بنعيم العيش وخيرات الحياة بدون أصدقاء. فكل واحد منا يجد نفسه في حاجة إلى الغير من أجل أن يساعدوه على تلبية المطالب المادية والغريزية من جهة، والتي لا يمكنه لوحده تلبيتها، ومن أجل تحقيق رغباته الفكرية والروحية من جهة أخرى. فالغير كما اعتبر الفيلسوف جان بول سارتر هو وسيط أساسي بيني وبين نفسي. فلا يمكن أن أفكر في قضايا ومشاكل إلا إذا كان الغير طرفا رئيسيا فيها، كما لا يمكن أن ينتابني إحساس ما، بالفرح أو الحزن، أو الحب أو الكراهية، أو غير ذلك من المشاعر الإنسانية، إلا إذا كان الغير هو من أحدثها في نفسي وجعلني أحس بها. فنحن نلجأ إلى الغير من أجل أن نخفف من مشاعر الحزن والألم والتوتر الذي قد ينتابنا، بحيث يغدو الغير والحالة هاته بمثابة ملاذ نلوذ به لتجاوز مرارة العزلة وغرابتها القاسية. فبالرغم من جحيمية الغير وما قد يأتينا منه من أذى وضرر وحزن، فإننا مع ذلك لا نستطيع الاستغناء عنه من أجل إثبات وجودنا والإحساس بقيمة المشاعر الإنسانية التي تختلج في ذواتنا.
وإذا كانت السعادة شعورا وإحساسا ينتابنا أو نعيشه بدواخلنا، فإنه يبدو أن الإحساس بها لا يكون ممكنا بدون الدخول في علاقات متشعبة ومتنوعة مع الغير. وإذا كان هذا الغير هو إنسان مثلي، أو كما قال سارتر هو الأنا الذي ليس أنا، يشبهني ويختلف عني، فإنه هو أيضا يحتاجني من أجل الإحساس بسعادته والظفر بها، لأنني أمثل غيرا لا يمكنه أن يستغني عني من أجل الإحساس بطعم السعادة. وهاهنا نجد أنفسنا بصدد مواجهة وتقابل بين سعادة الأنا وسعادة الغير، وهو ما قد يثير جملة من الاستفهامات يمكن التعبير عنها كما يلي: بأي معنى يعتبر الغير ضروريا لسعادتي؟ وهل يكون الغير دائما عاملا من عوامل سعادتي أم أنه قد يكون أحيانا عاملا من عوامل شقائي وتعاستي؟ وفي هذه الحالة الأخيرة؛ ألا يمكن القول بأنني لا أحس بالسعادة إلا حينما أنكفئ على ذاتي وأبتعد عن الغير؟ لكن هل يمكنني أن أكون سعيدا دون أن أسعد الآخر؟ وبتعبير آخر؛ أليس إسعاد الغير شرطا لسعادتي؟ ثم هل يمكنني أن أسعد الغير دون أن أكون قد حققت السعادة لذاتي أولا؟
لقد بين الفيلسوف الألماني هيجل أن الوعي الإنساني يظل غارقا في الطبيعة ومنغمسا في الحياة العضوية في اللحظة الأولى التي يكون خلالها منعزلا عن الغير، لأن أشياء الطبيعة تلبي له حاجاته الغريزية والعضوية ولكنها لا تقوى على تلبية رغباته العقلية والروحية. فيمكنني وأنا أوجد في الطبيعة لوحدي أن أغذي جسدي بثمار الأشجار وفواكهها، وأن أشرب ماء الأنهار والينابيع، وآكل لحم الطيور والحيوانات وأشرب لبنها، وأستنشق عبير الورود ورائحة الأزهار، لكن كل هذا يظل من قبيل التغذية الجسدية التي توفرها لي الطبيعة، أما تغذية الروح فلا يمكنني أن أجدها إلا عند الآخر البشري الذي نسميه الغير. وإذا كانت السعادة هي إحساس وجداني وروحي، وإن كانت غير منفصلة تماما عن الجسد بحكم التداخل والعلاقة المعقدة الموجودة بينهما، فإن الظفر بها لا يكون إلا مع الغير. فالسعادة بهذا المعنى هي عاطفة بشرية لا توجد إلا عند الإنسان، لأن الحيوانات غير العاقلة تحس بالألم أو اللذة المرتبطين بالجسم والأعضاء، بينما الكائن البشري يتفوق عليها بشعوره بأحاسيس أخرى يأتي في مقدمتها الإحساس بالسعادة.
وإذا تبين أن الإحساس بالسعادة يخص الإنسان وحده، فإن ذلك يعني أنها ترتبط أكثر بالجوانب العقلية والفكرية والوجدانية والروحية التي لا نعثر عليها إلا عند الإنسان ككائن روحي وواع ومفكر. وحيث أن الأفكار والمشاعر التي توجد لدى الفرد البشري لا معنى لها بدون تواجده داخل جماعة بشرية ما، فإن الغير المتجسد في أفراد تلك الجماعة يمثل عنصرا لا غنى عنه من أجل الحديث عن أي سعادة ممكنة لدى الفرد.
وفي هذا السياق، أكد الفلاسفة المسلمون على الاختيار العقلاني والاجتماعي والمدني في تحقيق السعادة، وذلك من خلال تأكيدهم على شرطين أساسيين من أجل بلوغ السعادة، هما: الإرادة والجماعة. وتعني الإرادة في ارتباطها بالسعادة قدرة الإنسان على الاختيار والتحكم في أفعاله وتدبير أحواله. ومن هنا تعتبر الحرية شرطا ضروريا للإحساس بطعم السعادة، إذ لا يمكن للمرء أن يكون سعيدا وهو يرزح تحت نير الوصاية والاستعباد! ذلك أن السعادة تتطلب الجهد والعمل والمثابرة، وهو ما لا يتأتى إلا من خلال التخطيط والتدبير المعقلن والحر. فالسعادة ليست وليدة الصدفة والاتفاق، وإنما تحصل بواسطة العمل والجهد والبرمجة؛ فلا يمكن لإنسان عاطل أن يحس بمذاق السعادة، لأن هذه الأخيرة تتجسد من خلال أعمال وأفعال ينجزها الفرد، فتحظى بتقدير الآخرين وإعجابهم، وهو ما يكون له انعكاس طيب على نفسية الفرد، ويجعله ذلك يشعر بنكهة السعادة.
وفي هذا الصدد يذهب الفيلسوف المسلم مسكويه إلى أن السعادة لا تتأتى إلا عن صناعة وتأديب، وهو ما يضفي عليها طابعا تربويا ومؤسساتيا. ومعنى ذلك أن السعادة فضيلة أو هي على الأقل مصحوبة بالفضيلة، ولذلك فهي لا تدرك إلا عن طريق التربية الحسنة والتحلي بالفضائل الأخلاقية السامية، وهذا ما تلعب فيه مؤسسات الأسرة والمدرسة ومؤسسات المجتمع المدني دورا مهما. وإذا كان لا معنى حقيقيا للفضائل الأخلاقية إلا في إطار الاجتماع المدني، وإذا كانت السعادة ترتبط بالفضيلة أو أنها في حد ذاتها فضيلة، فضلا عن كونها إحساسا جميلا، فإنه لا معنى للسعادة إلا في إطار العلاقة مع الغير.
وهكذا، فإن الطابع الجماعي والتربوي والمؤسساتي للسعادة، يجعل من المتعذر على الفرد بلوغها في العزلة والانفراد عن الغير. ومن هنا فإن سعادة الزهاد والنساك المبتعدين عن الناس هي سعادة وهمية ومشكوك فيها. فمن لم يخالط الناس ويعاشرهم لا يمكنه أن يدعي أنه يتصف بفضائل معينة أو يحس بالسعادة، لأن الفضائل الأخلاقية والمشاعر الإنسانية تحصل للمرء كنتيجة لعلاقات التأثير والتأثر التي تحدث بينه وبين الآخرين. وإذا كنت حينما أوثر الغير على نفسي، أو أعفو عنه، أو أمد له يد المساعدة، أو أحبه، أو أواسيه، أشعر من جراء ذلك بالسعادة، فإن ذلك يدل دلالة قاطعة على ارتباط السعادة بالقيم الأخلاقية السامية التي تربطني بالغير من جهة، وبالأحاسيس النبيلة والجميلة التي أكنها له من جهة أخرى.
وإذا كان الإنسان يحتاج في حياته إلى التعاون مع أبناء جنسه من أجل تحقيق حاجاته اليومية، ومن ثم تحصيل سعادته، فإن بلوغ هذه الأخيرة يتطلب تضافر جهود عدة أفراد في إطار ما سماه الفيلسوف الفارابي بالتدبير المدني الذي يؤدي فيه كل فرد الأعمال والوظائف التي تناسب طبيعته ومؤهلاته الذاتية، لكي يساهم بذلك في سعادة الجماعة، وتحقيق الخير الأفضل والكمال الأقصى الذي لا ينال إلا في إطار المدينة الفاضلة.
وهكذا، فإن هذا الطابع الجماعي الذي تأخذه السعادة عند كل من الفارابي ومسكويه، هو رفض ونقد لموقف الزهاد وبعض المتصوفة الذين اختاروا العزلة بحثا عن سعادة فردية، يظنون أنها يمكن أن تحصل لهم في الخلوة والابتعاد عن الناس.
وإذا كان قد ظهر لنا أن الغير شرط ضروري لحصول السعادة الإنسانية، وأن هذه الأخيرة لا تتأتى إلا في إطار الجماعة أو الاجتماع البشري، فإنه يمكن التساؤل الآن: هل سعادة الفرد تمر بالضرورة من خلال إسعاد الآخرين؟ ثم ألا يمكن القول بأنه لا إسعاد للآخرين إلا عن طريق إسعاد الذات أولا؟
يظهر أنه من الصعب على إنسان يقوم بأفعال إجرامية، يلحق من خلالها الضرر والأذى بالناس، أن يحس براحة الضمير وطمأنينة النفس، اللهم إلا في حالات مرضية وسادية قصوى. وهذا يدل على أن إسعاد الذات لا يكون ممكنا إلا من خلال القيام بأفعال الخير، والتي تتجه ولا شك نحو الآخرين، وبالتالي فهي تساهم في تحقيق السعادة لهم. ومن هنا، فحينما أحب الآخرين وأحترمهم وأكون صادقا معهم، وأساعدهم أو أوفي بالعهود التي أبرمها معهم، أو أتعاون وإياهم على أعمال البر والإحسان، فإن كل هذه الأعمال الخيرة ولا شك تساهم في إسعاد ذاتي وإسعادهم في نفس الوقت. ومن هنا يمكن القول بأنه من الصعب أن أصنع سعادتي على حساب شقاوة الغير، بل العكس هو الصحيح؛ أي أن إسعاد الغير هو مناسبة مهمة لخلق سعادة الذات.
وإذا ما حدث، في أحوال معينة، أن وجدنا أشخاصا قد نهبوا مال الآخرين أو ظلموهم بشكل ما من الأشكال، واستطاعوا بذلك أن يحققوا مكاسب وامتيازات معينة قد تجعلهم يعيشون حياة الرفاهية و"السعادة"، فإن هناك احتمالين اثنين؛ إما أن هؤلاء عديمي الضمير والإحساس الإنساني الرفيع، وبالتالي فهم يعيشون سعادة مؤقتة وذات طابع عابر يجعلها شبيهة بسعادة السكارى والقتلة والمجرمين، وإما أن ما يحيونه ليس من السعادة الحقيقية في شيء، بل هو من قبيل النشوة والفرح والمتعة التي تتراءى للأنظار أنها سعادة على مستوى ما هو ظاهري، لكنها تحجب الألم والتوتر والقلق والشقاء الذي يقبع داخل نفوس أصحابه، ويحسونه على مستوى ما هو باطني.
ومن هنا اعتبر الفيلسوف برتراند راسل أن سعادة الذات تكمن في الاهتمام الودي والتلقائي بالأشخاص الآخرين. فالشخص السعيد هو الذي يحب الناس تلقائيا، دون أن ينتظر مقابلا لمثل هذا الحب. إنه ذلك الشخص الذي يجد المتعة في تتبع أحوال الناس وتوفير الظروف المناسبة لإشعارهم بالسرور والسعادة، دون انتظار تلقي أية مكافأة أو إعجاب من طرفهم. وغالبا ما يشعر مثل هذا الشخص بالرضا والارتياح والسعادة من جراء سلوكه التلقائي هذا مع الناس، والذي يساهم في إسعادهم وإسعاد الذات معا. وهكذا، فأكبر سعادة يمكن للمرء أن يشعر بها هي تلك النابعة من حبه واهتمامه التلقائي والطبيعي بالناس الآخرين، هذا الاهتمام الذي يساهم أيضا في إسعاد الآخرين، خصوصا وأن الناس يحبون أن يكون الاهتمام بهم صادقا وعفويا، وليس صادرا عن إكراه الواجب الاجتماعي.
لكن إذا لم أتمكن طبيعيا وتلقائيا من القيام بما من شأنه إسعاد الآخرين، ألا يمكن القول بأنه يتحتم علي القيام بذلك انطلاقا من الواجبات المفروضة علي من طرف المجتمع والأوامر الأخلاقية؟ ألا يمكن القول بأن إسعاد الآخرين هو واجب تجاه الذات؟ ثم ألا تتوقف سعادة الذات على واجب إسعاد الآخرين؟
إن للفرد واجبات كثيرة نحو أسرته، ونحو عمله، ونحو مجتمعه، ونحو الإنسانية ككل. وقيام الفرد بهذه الواجبات يساهم ولا شك في تحقيق السعادة لكل تلك الأطراف الأخرى؛ فحينما أقوم بواجب توفير الأكل والشرب والمسكن واللباس، وأيضا الاهتمام والمحبة، تجاه أولادي، فإنني أعمل ولا شك على محاولة تحقيق السعادة لهم، لأنه لا يمكن تحقيقها لهم بدون أن أوفر لهم تلك الحاجات والرغبات المادية والمعنوية. ونفس الشيء يمكن قوله بالنسبة لواجباتي المهنية أو الوطنية أو الإنسانية؛ فبإخلاصي في عملي وتطويري لمواهبي وقدراتي الإبداعية، يمكنني أن أساهم في تنمية مجتمعي وإفادة باقي الناس بالأعمال الخيرة والنافعة التي أقوم بها.
ومن هنا، فإسعاد الآخرين هو واجب يتعين على الذات القيام به، كما أن سعادتها هي نفسها لا تكون ممكنة إلا عبر إسعاد الآخرين كما بينا سابقا. لكن هل يمكن للشخص أن يسعد الآخرين دون أن يكون هو نفسه سعيدا؟ أليس فاقد الشيء لا يعطيه؟
يمكن القول مع الفيلسوف الفرنسي ألان (إميل شارتيي) بأن السعادة واجب تجاه الذات والغير معا. فمن جهة يتعين على الفرد أن يبذل مجهودا من أجل الحصول على سعادته الذاتية، لأن هذه الأخيرة هي واجب على الإنسان تجاه نفسه، ومن جهة أخرى يتعين عليه أن يبذل قصارى جهده من أجل القضاء على الآلام والمآسي المنتشرة في كل مكان في العالم، وهو ما سيساهم ولا ريب في جعل الآخرين يشعرون بالسعادة أكثر.
وإذا كان إسعاد الآخرين سيجعل المرء سعيدا، فإن إسعادهم أحيانا لا يمكن أن يكون إلا من خلال إسعاد الذات أولا، إذ كيف لامرئ يفتقد إلى السعادة ويكون بإمكانه أن يمنحها للآخرين؟ ولعل هذا هو ما جعل الفيلسوف ألان يعتبر أن إسعاد الذات هو قنطرة ضرورية لإسعاد الغير، وأن أجمل هدية يمكن أن نقدمها إلى الآخرين هي أن نعمل على إسعاد أنفسنا أولا.
ولهذا، فالناس يميلون في الغالب إلى الذهاب عند أولائك الذين يمنحونهم المتعة والبهجة والسرور والسعادة، وينفرون من أولائك الذين يجلبون لهم الألم والقلق والتعاسة. وهذا ما يسمح بالقول بأن من يملك السعادة أكثر هو من يمنحها أكثر. لكن مع ذلك ربما حق لنا التساؤل: ألا يحدث أحيانا أن تكون سعادة الغير على حساب سعادتنا؟ ألا يمنح الفرد السعادة للآخرين أحيانا دون أن يستمتع بها هو نفسه؟