بالرغم من أن التلاميذ
يدركون، بل وقد يحفظون، الخطوات المنهجية المتعلقة بالإنشاء الفلسفي، إلا أن ذلك
لا يمكنهم من كتابة إنشاء فلسفي في المستوى المطلوب، لأن المرور من النظري إلى
التطبيقي ليس بالأمر الهين.
ولهذا
نعتقد أن من بين الطرق التي يمكن أن نساعد بها التلاميذ على تطوير قدراتهم في
الكتابة الإنشائية الفلسفية، بالإضافة إلى التمارين التطبيقية، هي أن نكتب لهم
إنشاءات نجيب من خلالها على مواضيع اختبارية، لكي يلاحظوا مباشرة المهارات وهي مطبقة
في الكتابة الإنشائية الفلسفية. وهذا ما نسميه ب"التعلم بالنموذج"؛ أي
تعلم أدوات ومهارات وتقنيات الكتابة الفلسفية من خلال استلهامها واستبطانها
واستدماجها أثناء قراءة مواضيع إنشائية بعينها، دون أن يعني ذلك استنساخها بشكل
حرفي.
ولهذا
السبب أقدم لكم أعزائي التلاميذ هذا الإنشاء الفلسفي، الذي أجيب من خلاله على قولة
فلسفية حول العلاقة مع الغير؛
إنشاء فلسفي
حول قولة مرفقة بسؤال
بقلم: محمد الشبة
* القولة:
« نحن في علاقة غامضة مع الغير، نتردد بين
التعاطف معه أو الخوف منه.»
لم تكون العلاقة مع الغير غامضة ؟
* الموضوع الإنشائي:
تعتبر العلاقة مع الغير من بين القضايا التي
ناقشها الفلاسفة في مجزوءة الوضع البشري. فالشخص، باعتباره كائنا اجتماعيا، لا
يمكنه أن يعيش منعزلا عن الآخرين بل لا بد له أن ينسج علاقات مختلفة مع الغير.
ونظرا لأن هذا الأخير يتخذ أوجها مختلفة، فإن علاقتنا به ملتبسة وشائكة؛ إذ أنها
أحيانا تكون علاقة مبنية على الصداقة والتعاطف، وأحيانا أخرى تكون علاقة يسودها
الخوف والحذر. وهذا ما يدفعنا إلى التساؤل: لماذا تكون علاقتنا مع الغير غامضة؟ ما
أسباب هذا الغموض؟ وهل تتأسس علاقتنا مع الغير على المحبة والتعاطف أم على
الكراهية والخوف؟ وهل من أسس أخرى تنبني عليها علاقتنا مع الغير؟
إذا تأملنا هذه القولة فإننا نجد أنها تنبني
على أطروحة مفادها أن علاقتنا مع الغير يطبعها الغموض والالتباس، فهي تارة تتأسس
على المودة والمحبة والتعاطف، وتارة أخرى يطغى عليها الخوف والحذر. ومن هنا فهي
علاقة مزدوجة وشائكة وملتبسة. وإذا ما تأملنا في الطابع الغامض لعلاقتنا مع الغير،
فإننا نجد لهذا الغموض أسبابا متعددة، من بينها أن معرفة مشاعر الغير وأفكاره
ونواياه هي معرفة صعبة وتظل نسبية. ومن هنا فإن من بين دلالة هذا الغموض هي عدم
معرفتنا بجوانب معينة في شخصية الغير، فلو كنا نعرفه تمام المعرفة لما كان غامضا
بالنسبة إلينا. ومن بين أسباب هذا الغموض أيضا أن الغير غالبا ما يكون متقلب
الأطوار ومتغير المزاج والمواقف، وقد يحدث هذا بسبب اختلاف الظروف النفسية أو
الاجتماعية، أو تباين وتعارض المصالح المادية، مما يجعل الغير يفاجئنا بتصرفات
تطرح بالنسبة إلينا الكثير من الغموض في فهم شخصيته وسلوكاته. ويترجم هذا الغموض
على مستوى العلاقة المزدوجة والملتبسة التي تربطنا بالغير، والتي تتأرجح بين
التعاطف معه والخوف منه. فحينما نتحدث عن التعاطف، فإننا نكون أمام علاقة إيجابية
مع الغير تنبني على القرب والتواصل والمحبة والمودة، وهو ما يقع عندما يكون الغير
صديقا أو حبيبا أو أخا أو أبا أو أما، حيث نجده كملجإ نلوذ به من أجل التخفيف من
آلامنا وهمومنا، كما نتبادل معه مشاعر السعادة والفرح، ونناقش معه أفكارنا
ومشاريعنا المستقبلية من أجل الأخذ بنصائحه وإرشاداته، التي تكون ولا شك مفيدة لنا
باعتبار أن علاقتنا به تنبني على المودة والنصح وعلى كل القيم النبيلة والجميلة.
لكن بقدر ما يوجد الغير الصديق والحبيب والخير، فإنه يوجد أيضا الغير الغريب
والحقود والشرير. بل قد يحدث أحيانا أن تتجسد هذه الازدواجية عند نفس الغير؛ فكم
من شخص اعتبرناه صديقا وأخا عزيزا، ولكننا تفاجأنا ذات يوم بغدره وسوء معاملته
معنا. ولعل هذا ما يجعل الثقة شبه مفقودة بين الناس في عالمنا المعاصر، إذ أصبح
الصديق الفاضل والمخلص عملة نادرة. فنحن نتوجس من الغير ونأخذ الحيطة والحذر منه،
لأننا نخاف من الشر والأذى الذي قد يلحقنا منه. ففي الحياة هناك المجرمون
والإرهابيون والأشرار والحقودون والحساد، والذين قد يفاجؤوننا في أية لحظة
بأفعالهم السيئة والشريرة التي تؤذينا وتضرنا، مما يجعلنا نخاف منهم ونتخذ كافة
الاحتياطات اللازمة لتجنب شرورهم. فكم من شخص اعتقدنا أنه صديقنا وانقلب علينا بين
عشية وضحاها، وطعننا بسيوف غدره القاتلة، وكم حدث أن هجم علينا مجرمون أو لصوص
وسلبونا ممتلكاتنا دون أن نسبب لهم أي أذى، وكم من أناس يحسدوننا ويكرهوننا دون
وجود أية أسباب مفهومة ومعقولة. ولهذا، فالعلاقة مع الغير هي فعلا علاقة يطبعها
اللبس والغموض؛ فبقدر ما أنها علاقة مفيدة وإيجابية أحيانا، فإنها تكون علاقة مضرة
وسلبية أحيانا أخرى.
ويمكن القول بأن قيمة أطروحة هذه القولة
تتمثل في تنبيهنا إلى العلاقة الملتبسة والمزدوجة التي تطبع علاقتنا مع الغير،
والتي تتأرجح بين التعاطف مع الغير والخوف منه. وبتأملنا في الواقع الاجتماعي نجد
بالفعل عدة شواهد وأمثلة تؤكد ازدواجية هذه العلاقة. فحياتنا المعيشية لا تخلو من
أناس، على قلتهم، نجدهم سندا لنا في أوقات المحن والشدائد، فتأتينا منهم المواساة
والمساعدة سواء المادية أو المعنوية. وهذا هو حال علاقتنا مع آبائنا وأمهاتنا، ومع
الأصدقاء المخلصين والناس الأخيار الطيبين الذين يصعب علينا العيش بدونهم. ولهذا
نجد أرسطو يعتبر أن الصداقة ضرورية في الحياة، وأن لا أحد ينعم بالخيرات بدون
أصدقاء. فسواء كان المرء غنيا أو فقيرا، وسواء كان هذا الفقر ماديا أم معنويا،
فإنه يحتاج إلى الأصدقاء؛ ففي حالة الغنى يكون الدافع إلى الصداقة هو الشعور بقيمة
ما نملك، أما في حالة الفقر فإنها تكون بمثابة ملاذ نلوذ به للتخفيف من آلام العيش
وهموم الحياة. وبطبيعة الحال فإن أرسطو يقصد هنا الصداقة الحقيقة والدائمة التي هي
صداقة الفضيلة، أما صداقتا المنفعة والمتعة فهما زائلتان وغير حقيقيتين. لكن بقدر
ما يوجد في عالمنا الصديق والطيب والخير يوجد أيضا العدو والخبيث والشرير. ولعل
هذا هو ما جعل سارتر يعتبر الغير جحيما، مادام يشيئنا ويفقدنا حريتنا ولا يتعاطف
معنا. وإذا كان الغير ينظر إلينا فقط من الخارج، كما رأى سارتر، فإن المعرفة
ستنعدم بيننا، مما يجعل علاقتنا به علاقة غامضة يسودها الخوف والحذر.
وهكذا، فبقدر ما نجد أن علاقتنا بالغير مبنية
على التعاطف، فإنها تكون مبنية أيضا على الكراهية والخوف، مما يجعل صواب أطروحة
صاحب القولة ذا طابع نسبي ومختلف باختلاف الظروف والأحوال. فالغير غامض وواضح، وهو
عدو وصديق، وهو جحيم ونعيم. ولهذا يظل الرهان هو كيفية الارتقاء بالعلاقة مع الغير
من مستوى الغموض والعداوة والكراهية إلى مستوى الوضوح والصداقة والمحبة المتبادلة.
وهذا يتوقف على المجهودات التي يمكن أن نبذلها جميعا من أجل التغلب على أنانيتنا
ومصالحنا الضيقة، ومحاولة ربط علاقات مع الغير تنبني على التقرب منه والتواصل معه
والاعتراف به، وهو ما من شأنه أن يجعلنا نعرفه معرفة عميقة وحقيقية، ونكسب ثقته
ونؤسس علاقة معه تبني على القيم الإنسانية النبيلة. ومهما كان الغير غامضا وغريبا،
فإن علينا أن نحترم غرابته وحقه في الاختلاف، لأن الغريب كما ترى جوليا كريستيفا
يسكننا نحن أيضا على نحو غريب، مما يحتم علينا أن نبني علاقتنا بالغريب على أسس
المحبة والتسامح والاعتراف المتبادل، وليس على أسس الكراهية والعنف والإقصاء.
ويمكن أن نخلص في الأخير إلى التأكيد على
العلاقة الشائكة والملتبسة التي تميز علاقتنا مع الغير، نظرا لتعدد أوجه هذا الغير
ولتباين طبيعة هذه العلاقة بتباين الأمزجة والطباع من جهة، وتباين المصالح
والمنافع من جهة أخرى. وهذا ما يحتم في نظرنا أن نبذل قصارى جهدنا، كأفراد
وكجمعيات وكمؤسسات، من أجل القضاء على كل الأسباب التي تؤدي إلى الخوف والكراهية
والغموض، ونؤسس لعلاقة بديلة تنبني على الأمان والمحبة والوضوح. فما هي العوائق
والتحديات التي من شأنها أن تقف أمام تحقيق هذا المبتغى الإنساني النبيل؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.